Powered By Tassmeem Co.Ltd

شوقي العيسه
عاد هذه الايام التداول والنقاش حول الوثيقة السرية للغاية التي كتبها في 14-9-1967 السيد ثيودور ميرون المستشار القانوني لوزارة الخارجية الاسرائيلية وقتذاك بطلب من رئيس الوزراء اشكول، حول القانون الدولي والمستوطنات ، وهي التي الغيت عنها صفة السرية عام 2006 . وكانت صحيفة نيويورك تايمز وغيرها غطت ذلك الحدث بكيل المديح للبروفيسور ميرون دون اطلاع القراء على نص الوثيقة والاكتفاء بالقول انه طرح فيها رأيه القانوني بان المستوطنات المدنية مخالفة للمادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة .
قبل اشهر قام قاضي دانمركي باتهام السيد ميرون الذي يشغل منصب قاض في المحكمة الدولية المختصة بجرائم الحرب في يوغوسلافيا السابقة وكذلك المحكمة المختصة بجرائم رواندا، وهو يحمل الجنسيتين الاسرائيلية والامريكية ، باتهامه بانه يعمل وفق اجندة اسرائيلية امريكية لتبرئة المتهمين الذين ادينوا بجرائم حرب ، وذلك لضمان عدم محاكمة مسؤولين اسرائيليين وامريكيين مستقبلا كونهم يقومون بافعال شبيهة بالتي حوكم عليها هؤلاء الروانديين واليوغسلاف. ثم جاءت وثائق ويكيليكس التي تبين اتصالات بين القاضي ميرون والسفارة الامريكية في هولندا حيث المحكمة ، اثناء عمله على هذه القضايا . وقد علق احد الصحفيين (في هذه الحالة هل هم الامريكان ام الاسرائيليين الذين يملون على القاضي ميرون ، ليس مهما، فما الفرق بين الكلب والذنب) .
لذلك عاد الاعلام الغربي لاستخدام الوثيقة للدفاع عن السيد ميرون . اذن المسألة تتعلق بشخص البروفيسور ميرون وعمله في المحكمة في لاهاي اكثر من كون الوثيقة تحدد رأي قانوني حول المستوطنات.
من هو البروفيسور ثيودور ميرون ؟
في عام 1999 دعاني البروفيسور ستاينر رئيس قسم حقوق الانسان في كلية القانون في جامعة هارفرد للعشاء في بيته مع استاذ القانون الدولي في جامعة نيويورك والذي كان مدعوا لالقاء محاضرات في جامعة هارفرد حول اسرى الحرب في القانون الدولي ، واذا به هو السيد ثيودور ميرون . الذي كان ترك عمله في الخارجية الاسرائيلية عام 1976 وانتهى به المطاف وقتها مدرسا في جامعة نيويورك ، لالتقيه ثانية بعد ذلك باشهر وقد اصبح مستشارا في القانون الدولي لوزارة الخارجية الامريكية ، خلال حفل استقبال اقامته الامم المتحدة في نيويورك بمناسبة تأسيس المحكمة الجنائية الدولية ، ويخبرني انه عضوا في الوفد الامريكي الرسمي لتأسيس المحكمة واقرار نظامها ، وكان اصطحب معه الى الحفل ابنه الذي كان ناشطا في تنظيم اعمال تطبيع بين الفلسطينيين والاسرائيليين.
خلال اللقائين استنتجت ان الرجل يتمتع بصفتين هامتين بالنسبة لي في الحديث معه ، الاولى انه كفاءة متقدمة وهامة في القانون الدولي ويعد في الصفوف الاولى على المستوى الدولي ، والثانية انه صهيوني الولاء بامتياز ولكن والاهم بذكاء خارق . وربما تفسر هاتين الصفتين ان السيد ميرون بعد مغادرة اسرائيل شغل مناصب دولية هامة وحساسة ، عمل بروفيسور قانون دولي في معهد جنيف للدراسات الدولية ، ومدرسا في كلية القانون في جامعة نيويورك، ومستشارا للقانون الدولي في الخارجية الامريكية ، وعضوا في معهد القانون الدولي لدى مجلس العلاقات الخارجية الامريكي والرئيس الفخري للجمعية الامريكية للقانون الدولي ، ثم في الاكاديمية الامريكية للعلوم والاداب، وصولا الى رئيس المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة مجرمي الحرب في يوغوسلافيا وقاضي مقيم في محكمة الاستئناف على قرارات المحكمة الجنائية الدولية لمجرمي الحرب في رواندا . واخيرا اصبح في 1-3-2012 ولمدة اربع سنوات رئيسا للآلية الدائمة للمحاكم الجنائية الدولية والتي كان عين عضوا فيها قبل يوم واحد من تعيينه رئيسا لها . هذا هو البروفيسور ثيودور ميرون .
خلال عمله في محاكم رواندا ويوغوسلافيا ، قام بتبرأة العديد من القادة المتهمين او تخفيض مدة الحكم ، وهو ما ادى الى قيام المجلس الوطني لمحاربة جريمة التطهيرالعرقي في رواندا بالطلب رسميا بعزل رئيس محكمة الاستئناف القاضي ميرون واصفينه بالمخرب، اما القاضي الدانمركي فريدريك هاروف الذي اوضح ان السيد ميرون قام بالتأثير على قضاة اخرين وقام بتغيير معايير ادانة القادة لان المعايير الاصلية التي ادينوا بموجبها تنطبق على قادة اسرائيليين وامريكيين فقد عزل هو من منصبه بتهمة عدم الحيادية .
بالعودة الى وثيقة عام 1967 ، قبل اشهر كانت المجلة الامريكية (موندوويس، حرب الافكار في الشرق الاوسط ) والتي تعرف نفسها انها تهتم بتغطية السياسة الخارجية الامريكية في الشرق الاوسط ، من منطلق او اعتمادا على ، وجهة النظر اليهودية التقدمية. كانت نشرت حول (مشاكل لاهاي) والاتهامات الموجهة الى السيد ميرون ، ونشر معلقوها اراء حول مدى مهنية وكفاءة السيد ميرون من خلال التذكير بوثيقة الاستيطان والقانون الدولي . ثم قامت المجلة بنشر تعليق يخالف هذه الاراء من خلال تحليل للوثيقة يدلل على عكس الفكرة السائدة بان السيد ميرون اعتبر الاستيطان مخالف للقانون الدولي وانه مهني والحكومة الاسرائيلية لم تأخذ برأيه ، بل ويوضح انه صهيوني الولاء وكان يبحث عن مخارج للاحتلال للعمل من خلالها . واكتفت المجلة بالقول ان كاتب التعليق يحمل الجنسية الامريكية وانها تحجب اسمه لاسباب تتعلق بمكان عمله . وطبعا تنشر رأيه من منطلق حرية الرأي والرأي الاخر.
اوضح المعلق المذكور ان السيد ميرون في وثيقته كان منسجما مع نفسه كبيروقراطي صهيوني ، ولتدعيم رأيه اوضح ان السيد ميرون خلال عمله في الخارجية الاسرائيلية عمل لفترة كممثل لاسرائيل لدى الامم المتحدة في جنيف وكان يتصرف مثل اي ممثل اخر لاسرائيل في مجلس حقوق الانسان ، وعلى سبيل المثال حين قدم تقرير لجنة تقصي حقائق مدعم وقوي ويثبت ان اسرائيل ترتكب انتهاكات جدية لمعاهدة جنيف بما في ذلك بناء المستوطنات وهدم البيوت ، دافع السيد ميرون بشدة عن اسرائيل واتهم معدي التقرير بالكذب وايراد انصاف الحقائق وانهم يكرهون اسرائيل وضد حقها في الوجود ، مع ان التقرير يقول ان المستوطنات مخالفة لاتفاقية جنيف ، هذا القول الذي يستخدم على انه ورد في وثيقة ميرون ويبين مهنيته وكفاءته ، ويذكر المعلق ان ما ورد في تقرير لجنة تقصي الحقائق تلك هو نفس ما اقرته محكمة العدل الدولية في لاهاي لاحقا في رأيها حول الجدار . ثم يبين كيف ان السيد ميرون في وثيقته عام 67 قام عمليا بتقديم النصائح للاحتلال كيف يمكن الالتفاف على القانون الدولي والقيام بالاستيطان في غوش عتصيون والجولان وانه طلب معلومات حول ما يخططون له في غور الاردن ليعطيهم النصيحة حول كيفية القيام بذلك .
الوثيقة التي اصبحت علنية بنسختها الاصلية العبرية عام 2006 بقيت كذلك حتى عام 2009 حين قامت جامعة لندن بترجمتها الى الانجليزية ترجمة قانونية رسمية ليستخدمها باحثوها ، وجاءت في 6 صفحات ، صفحتين عبارة عن مراسلات قصيرة بين المعنيين وصفحة فيها ملاحظة توضيحية من المترجمين ، وثلاث صفحات هي ما كتبه البروفيسور ميرون حول القانون الدولي والمستوطنات. ( واظن ان المعنيين في القيادة الفلسطينية اطلعوا عليها ، يمكن، تفاءلوا بالخير تجدوه ) .
ومما ورد في الوثيقة
في المقدمة كتب السيد ميرون يقول السؤال المطروح اعلاه عام وتصعب الاجابة عليه ، صيغة السؤال كانت ( ما هي القيود المانعة وكذلك التي تسمح في القانون الدولي للدول القائمة بالاحتلال فيما يتعلق باستخدام الاراضي ) ، ولكن فهمت مما شرحه لي السيد عادي يافيه (مدير مكتب رئيس الوزراء وقتذاك) ، ان الحديث عن اقامة مستوطنات يهودية في الضفة الغربية ومرتفعات الجولان ونقل الفلسطينيين من غزة الى العريش . في هذا الرأي سأناقش الموضوع الاول من وجهة نظر سياسية وقانونية لانه الموضوع الاكثر حساسية ودقة ، (اي انه اعتبر تهجير سكان من غزة الى العريش ليس بذات الحساسية) . ثم يقول ويعترف ان اي مبررات قانونية نحاول ايجادها وتسويقها عالميا لبناء المستوطنات (وهو ما يحاول القيام به) ستتعارض مع الضغط الدولي علينا بما في ذلك من الدول الصديقة التي تتوقع من اسرائيل توطين اللاجئين العرب في الاراضي المدارة ، بينما اسرائيل مشغولة باقامة مستوطنات لليهود في هذه الاراضي .
هذه المقدمة تبين انسجام كاتبها مع المشروع الاصلي الذي هدف الى استخدام الاراضي المحتلة كورقة مفاوضات وكذلك انسجامه مع التغيير على ذلك المشروع بعد وضوح الضعف والتخاذل العربي باتجاه ضم اجزاء منها وبناء مستوطنات .
ولتوضيح الامور اكثر نعود الى ما كشفه الكاتب الاسرائيلي توم سيغيف في كتابه عن عدوان 67 الذي صدر بالانجليزية عام 2007 في بريطانيا ، والذي اوضح ان النقاشات كان دائمة في اوساط القيادات الاسرائيلية حول ضرورة احتلال باقي فلسطين ولاسباب مختلفة باختلاف القادة ، وانهم حتى بعد انتهاء الحرب لم يكونوا قد قرروا نهائيا ماذا سيفعلون في الاراضي التي احتلوها . وربما هذا يفسر استخدامهم ومحاولة تطبيقهم لاتفاقيات جنيف في الاشهر الاولى.
يورد توم سيغيف النقاش الذي جرى بعد يوم واحد من انتهاء الحرب في مكتب رئيس الوزراء اشكول بينه وبين يوسف ويتز وابن ويتز رعنان الذي كان رئيس دائرة الاستيطان في الوكالة اليهودية . اشكول اراد رأيهم في الاستيطان في غوش عتصيون ورعنان اراد توسيع حدود القدس لتصبح من قلنديا الى غوش عتصيون ونقل سكان غزة الى سيناء ، بينما كان العجوز الكهن يوسف ويتز يقول لهم قبل هذا النقاش واتخاذ القرار عليكم ان تقرروا ماذا انتم فاعلون بهذه الاراضي هل هو الضم الكلي ام الجزيئ ام ماذا ، وقال لهم ان اعادة اليهود الى عتصيون التي تركوها عام 48 سيجلب الى الاضواء اعادة اللاجئين الفلسطينيين الى قراهم . وفي النهاية اقترح اجراء دراسة تفصيلية شاملة للاراضي المحتلة وسكانها . وافق اشكول وقال انه سيخبر ديان .
في اعتقادي هذا النقاش الذي نقله توم سيغيف هو السبب في توجيه السؤال من مكتب رئيس الوزراء الى السيد ميرون . ولكن عندما كتب سيغيف كتابه بالعبرية عام 2005 لم تكن وثيقة ميرون قد ظهرت للعلن . كذلك من المعروف سواء من سيغيف او من كتابات شلومو غازيت من الاستخبارات العسكرية والذي كلف بادارة الضفة بعد احتلالها انهم بدأوا الاستعداد في اسرائيل لاحتلال باقي فلسطين منذ عام 1963 وانهم سيطبقوا القانون الدولي ووزعوا نسخا من اتفاقيات جنيف بالعبرية والعربية على الجيش لاستخدامها . ويجب الالتفات الى البند الذي ورد في وثيقة ميرون ويقول فيه . ان الخارج ينظر الى الاراضي على انها محتلة واننا قوة احتلال ويورد كمثال خطابات مندوب بريطانيا في الامم المتحدة ثم يقول حتى ان بعض تصرفات اسرائيل تتعارض مع ادعاءنا انها ليست محتلة مثل القرار رقم 3 الصادر عن قائد قوات جيش اسرائيل في الضفة الغربية بتاريخ 7-6-1967 والذي ينص على ان المحكمة العسكرية وادارة المحكمة العسكرية تلتزم بتطبيق اتفاقية جنيف الرابعة في كل شيء له علاقة بالاجراءات القانونية واينما وجد تعارض بين الامر العسكري واتفاقية جنيف يجب تطبيق اتفاقية جنيف .
قراءة الوثيقة بتمعن تؤدي الى الاستنتاج بان السيد ميرون بوثيقته لعب دورا اساسيا في قرار اسرائيل باعتبار الاراضي المحتلة اراضي مدارة او مختلف عليها ولا تنطبق عليها اتفاقيات جنيف ، ومما يعزز هذا الاستنتاج ما كتبه شلومو غازيت وهو ان اسرائيل بعد احتلال الضفة انحرفت عن سياستها الاصلية ورفضت تطبيق اتفاقية جنيف ورفضت اعتبار الاراضي على انها محتلة وان من حقها اقامة مستوطنات وحين فصل تبريرات اسرائيل لكل ذلك تجد انه اعاد طرح ما ورد في وثيقة ميرون .
هذا هو البروفيسور ميرون ووثيقته ، وهنا لا بد ان نتذكر شخصية شبيهة وهو دانيال بيتلحم الذي عمل ايضا مستشارا في القانون الدولي لدى حكومة اسرائيل عام 2000 و 2001 اثناء عمل لجنة ميتشل وكذلك عامي 2003 و2004 في قضية الجدار امام محكمة لاهاي ، وحسب علمي هو من نصح اسرائيل بسحب موافقتها على لجنة تحقيق دولية في مخيم جنين ، واستجابت لنصيحته . وفي عام 2006 نجد السيد دانيال بيتلحم يعين مستشارا قانونيا لوزارة الخارجية البريطانية ، وهو ايضا وطبعا عضو في المجلس التنفيذي للجمعية الامريكية للقانون الدولي وكثير من المؤسسات الاخرى الشبيهة في بريطانيا وامريكا .
هكذا تعمل عجلة الانتاج الصهيوني ، هكذا تستغل كل كفاءة الى الحد الاقصى ، وخاصة في الخارج وفي المواقع الهامة .
في المقابل لا نزال نحن نعمل وفق استراتيجية صديقي جواد ( الخم عدوك ) تصرف بطريقة تجعله يحتار ويلتخم دون ان يجد تفسيرا لما تفعله . مثلا اذا اردت ارسال ممثلا الى مؤتمر طبي متخصص لا ترسل شخصا متخصصا في ذلك المجال ، واذا اردت تعيين سفيرا في دولة هامة فاياك ان ترسل شخصا يعرف لغتها وثقافتها ، واذا تطلب الامر المشاركة مثلا في مؤتمر دولي حول موضوع محدد في القانون الدولي فعليك ايفاد مثلا طبيب ولادة وامراض نسائية ، الخمهم حتى النهاية.
الغريب ان بعض الفلسطينيين وبعض انصار فلسطين في الخارج انطلت عليهم لعبة وثيقة السيد ميرون واستخدموها في القول انه حتى مستشار اسرائيل يقول ان المستوطنات غير شرعية واسرائيل لا تستجيب له .
لا ادري بالضبط ما الذي يبقينا نحن الفلسطينيين بعيدين عن الاحباط واليأس ومتمسكون بحتمية الانتصار ، رغم كل ما نراه من افعال قياداتنا المختلفة وما يجري لنا ، ربما شيء في الجينات يصعب تفسيره . اخيرا تذكرت شيئا حصل اثناء ذلك العشاء في هارفرد الذي ذكرته اعلاه ولم اعد اذكر ماذا كان الاكل ليلتها ، ولكن ما لا انساه ان النقاش انتقل في مرحلة معينة من موضوع اسرى الحرب ووضعهم القانوني الى موضوع اخر جرتنا اليه زوجة البروفيسور ستاينر والتي كانت وقتها منسقة لجنة مختصة في هارفرد لابحاث تتعلق بفلسطين واسرائيل وافاق السلام ، وارادت رأيي فيما يقومون به ، فقالت نقوم باحضار قادة من الطرفين ، في الطرف الفلسطيني قادة ممن تعرضوا لاضطهاد الاحتلال والسجن والتعذيب ( اذا كان احدهم يقرأ هذا المقال الان سيتذكر) ومن الطرف الاسرائيلي نحضر قادة عسكريين وامنيين وسياسيين ، ثم نجعل الطرفين يجلسون معا في غرفة ويتحدثون ويتناقشون ، ونتركهم لوحدهم ونسجل ما دار ونستمع اليه ونحلله ونخرج باستنتاجات وتوصيات . لحظتها انا تخيلت المنظر وشعرت ان دمي يغلي ، ثم ابتسمت واعطيتهم جوابي الصادم ، قلت، ان الاطباء يستخدمون الفئران في مختبراتهم للتجارب ، وانا لا احب الفئران بل اعشق النسور التي ترفض الاقفاص والمختبرات . وانتهى العشاء الذي بقي يتيما حتى اليوم .